فصل: الأولى: (الاستعاذة عند أوّل كل قراءة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: (إضمار الفعل):

اتفقوا على أنه لابد فيه من إضمار فعل، فإنك إذا قلت: (بالقلم) لم يكن ذلك كلامًا مفيدًا، بل لابد وأن تقول: (كتبت بالقلم) وذلك يدل على أن هذا الحرف متعلق بمضمر، ونظيره قوله: (بالله لأفعلن) ومعناه أحلف بالله لأفعلن، فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه، فكذا هاهنا، ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره: على اسم الله أي سر على اسم الله.

.المسألة الثالثة: (فصاحة الحذف):

لما ثبت أنه لابد من الإضمار فنقول: الحذف في هذا المقام أفصح، والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله: (أعوذ بالله) بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب، ويقع في الخاطر أن جميع المهمات، لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله، وإلا عند الابتداء باسم الله، ونظيره أنه قال: (الله أكبر) ولم يقل أنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا.

.المسألة الرابعة: (كسر الباء):

قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب، فإن قيل: كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة، قلنا: كاف التشبيه قائم مقام الاسم، وهو في العمل ضعيف، أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر، فكان فيه كلامًا قويًا.

.المسألة الخامسة: (ورود الباء أصلية):

الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مّنَ الرسل} [الأحقاف: 9] وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه: أحدها: للإلصاق وهي كقوله: {أَعُوذُ بالله} وقوله: {بسم الله} وثانيها: للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه، وثالثها: لتأكيد النفي كقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ورابعها: للتعدية كقوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] أي أذهب نورهم، وخامسها: الباء بمعنى في قال: حل بأعدائك ما حل بي.
أي: حل في أعدائك، وأما باء القسم، وهو قوله: (بالله) فهو من جنس باء الإلصاق.

.المسألة السادسة: (وود الباء زائدة):

قال بعضهم: الباء في قوله: {وامسحوا برؤسكم} [آل عمران: 6] زائدة والتقدير: وامسحوا رءوسكم، وقال الشافعي رضي الله عنه إنها تفيد التبعيض، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه الأول أن هذه الباء إما أن تكون لغوًا أو مفيدًا، والأول باطل؛ لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد، وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل، فثبت أنه يفيد فائدة زائدة، وكل من قال بذلك قال: إن تلك الفائدة هي التبعيض، الثاني: أن الفرق بين قوله: (مسحت بيدي المنديل) وبين قوله: (مسحت يدي بالمنديل) يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل.
الثالث: أن بعض أهل اللغة قال: الباء قد تكون للتبعيض، وأنكره بعضهم، لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض، ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضًا، فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس، وهذا هو قول الشافعي، والإشكال عليه أنه تعالى قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} [النساء: 43] فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافيًا في التيمم، وعند الشافعي لابد فيه من الإتمام، وله أن يجيب فيقول: مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخًا فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل، وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص.

.المسألة السابعة: (فروع على باء الإلصاق):

فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل: إحداها: قال محمد في (الزيادات): إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بمشيئة الله تعالى لا يقع الطلاق، وهو كقوله: أنت طالق إن شاء الله، ولو قال: لمشيئة الله يقع، لأنه أخرجه مخرج التعليل، وكذلك أنت طالق بإرادة الله لا يقع الطلاق، ولو قال لإرادة الله يقع، أما إذا قال: أنت طالق بعلم الله أو لعلم الله فإنه يقع الطلاق في الوجهين، ولابد من الفرق، وثانيها: قال في كتاب الأَيمان لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق، فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه، ولو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى، ولابد من الفرق، وثالثها: لو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثًا بألف، فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء هاهنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل، فصار بإزاء من طلقة ثلث الألف، ولو قال: طلقي نفسك ثلاثًا على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة (على) كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف. قلت: وهاهنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء.
(أ) قال أبو حنيفة: الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه، فإذا قال: بعت كذا بكذا، فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط، وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال: إذا قال: بعت هذا الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسدًا، وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح، والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن، وفي الصورة الثانية الخمر مثمن، وجعل الخمر ثمنًا جائز أما جعله مثمنًا فإنه لا يجوز.
(ب) قال الشافعي: إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم، وعند أبي حنيفة لا يتعين.
(ج) قال الله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] فجعل الجنة ثمنًا للنفس والمال.
ومن أصول الفقه مسائل: (أ) الباء تدل على السببية قال الله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله} [الأنفال: 13] هاهنا الباء دلت على السببية، وقيل: إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب.
(ب) إذا قلنا الباء تفيد السببية فما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية، لابد من بيانه.
(ج) الباء في قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) لابد من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق، وكذلك البحث عن قوله: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] فإنه يجب البحث عن هذه الباء.
(د) قيل: كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرآن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلومها في الباء من بسم الله (قلت) لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب، فهو كمال المقصود.

.النوع الثالث من مباحث هذا الباب، مباحث حروف الجر:

فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها: أحدهما: الباء؛ وثانيهما: لفظ (من) فنقول: في لفظ (من) مباحث:
(أ) أنك تقول: (أخذت المال من ابنك) فتكسر النون ثم تقول: (أخذت المال من الرجل) فتفتح النون، فهاهنا اختلف آخر هذه الكلمة، وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة، فهاهنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل، فإنه لا معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات، فوجب كون هذه الكلمة معربة.
(ب) كلمة (من) وردت على وجوه أربعة: ابتداء الغاية، والتبعيض، والتبيين، والزيادة.
(ج) قال المبرد: الأصل هو ابتداء الغاية، والبواقي مفرعة عليه، وقال آخرون: الأصل هو التبعيض، والبواقي مفرعة عليه.
(د) أنكر بعضهم كونها زائدة، وأما قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم، ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله.
(ه) الفرق بين من وبين عن لابد من ذكره قال الشيطان: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] وفيه سؤالان: الأول: لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع بلفظ عن.
الثاني: لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال: (أعوذ بالله من الشيطان) ولم يقل عن الشيطان.

.النوع الرابع من مباحث هذا الباب:

(أ) الشيطان مبالغة في الشيطنة، كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة، والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول، كما أن الرحيم في حق الله تعالى فعيل بمعنى فاعل، إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم، وهذا يقتضي المساواة بينهما، وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن الله وإبليس أخوان، إلا أن الله هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل، وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي، فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير.
(ب) الإله هل هو رحيم كريم؟ فإن كان رحيمًا كريمًا فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد، وإن لم يكن رحيمًا كريمًا فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان.
(ج) الملائكة في السموات هل يقولون: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان.
(د) أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ بالله.
(ه) الأنبياء والصديقون لم يقولون (أعوذ بالله) مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 83].
(و) الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] وأما الإنسان فهو الذي ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم؟. اهـ.

.قال القرطبي:

.القول في الاستعاذة:

وفيها اثنتا عشرة مسألة:

.الأولى: (الاستعاذة عند أوّل كل قراءة):

أَمَر الله تعالى بالاستعاذة عند أوّل كل قراءة فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي إذا أردت أن تقرأ؛ فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر:
وإني لآتيكم لذكري الذي مضى من الودّ واستئناف ما كان في غدِ

أراد ما يكون في غد؛ وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] المعنى فتدلى ثم دنا؛ ومثله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وهو كثير.

.الثانية: (الاستعاذة على النَّدْب في قول الجمهور):

هذا الأمر على النَّدْب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النّقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنّخعِي وقوم يتعوّذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعيّ يتعوّذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة؛ ومالك لا يرى التعوّذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان.

.الثالثة: (التعوّذ ليس من القرآن ولا آية منه):

أجمع العلماء على أن التعوّذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوّذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى. ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يابن أُمِّ عَبْد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم».